أرشيف الأوسمة: أبو فهر

أما والله يا عيد! #محمد_البشير_الإبراهيمي رحمه الله

أما والله يا عيد!

“أما والله لو ملكتَ النُّطْقَ يا عيد، … قُلتَ لهذه الجموع المهيضة الهضيمة من أتباع محمد [ﷺ] : يا قوم: ما أَخْلَفَ العيد، وما أُخْلِفَت من ربكم المواعيد، ولكنكم أَخْلَفْتُم، وأسلفتم الشر، فجُزيتم بما أسلفتم، { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا}.

فلو أنكم آمنتم بالله حقَّ الإيمان، وعملتم الصالحات التي جاء بها القرآن، ومنها جمع الكلمة، وإعداد القوة، ومحو التنازع من بينكم، لأنجز الله لكم وعده، وجعلكم خلائف الأرض، ولكنكم تنازعتم ففشلتم وذهبت ريحكم، وما ظلمكم الله ولكن ظلمتم أنفسكم.

أيها المسلمون: عيدكم مبارك إذا أردتم، سعيد إذا استعددتم. لا تظنوا أنَّ الدعاء وحده يردُّ الاعتداء، إنَّ مادة دعا يدعو، لا تنسخ مادة عدا يعدو، وإنما ينسخها أعدَّ يعدُّ، واستعدَّ يستعدُّ، فأعدوا واستعدوا تزدهر أعيادكم وتظهر أمجادكم”.

آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي، ج٣ ص٤٧٠، ط دار الغرب الإسلامي

والله يا عيد - محمد البشير الإبراهيمي

أعيادنا ! #أبو_فهر #محمود_شاكر رحمه الله

أعيادُ الأممِ هي الأيام التي تُسْتعلن فيها خصائص الشعوب وذخائرها وخلائقها الأدبية والعقلية والنفسية والسياسية. هي الأيام المبتهجة التي تنبض بالحياة وأسبابها في الأمة، لتدل على السِّر الحيوي الساري في أعصاب الحياة العملية اليومية المتتابعة على نظام من الجد لا يكاد يختلف.
 
واحتفال الشعب بأعياده أمر ضروري لإعطائه المثل الأعلى وإمداده بالروح التي تدفعه إلى مجده، أو إلى المحافظة عليه. فهو من ناحيتيه يظهر ما في الشعب من خصائصه ومحامده وعيوبه، ويُبقى على المثل الأعلى بالتجديد والبهجة والزينة.
 
فأعياد الأجانب الأوربيين مثلاً تكشف عن قوتهم واعتدادهم بأنفسهم، وتَعَشُّقهم لجمال الحياة الدنيا إدماناً وإغراقاً، وعن جعلهم المجاملة أصلاً أخلاقياً في أنفسهم وأهليهم، وعن غرورهم واستهتارهم واستهانتهم بأكثر الفضائل الإنسانية حين تجري في دمائهم عربدة الطغيان الإنساني المتوحش الذي يرتد إلى الغرائز الحيوانية المستأثرة باللذة، المجردة من الورع والتقوى.
 
وأعيادنا نحن تهتك الحجاب عن ضعفنا وذلتنا، واستكانتنا لما نشعر به من الضعف والذلة، وتبين عن ذهول الشعب عن نفسه وعن تاريخه، وعن مجده، وتعلقه بترهات الحياة، وقلة مبالاته بجمالها، وانصرافه عن معرفة الأحزان الخالدة في طبقاته بخلود الفقر والجهل والبلادة.
 
فهل يزدلف(١) إلينا ذلك اليوم الذي تتمثل فيه أعياد الشعب الإسلامي صورة السيطرة والسيادة والقوة، وتتبدَّى عليه أفراح الحياة الراضية المؤمنة المطمئنة، وتعود إليه الأخوة الإسلامية التي ساوت بين الناس غنيهم وفقيرهم وعالمهم وجاهلهم، وجعلتهم سواء لا فضل لأحد على أحد إلا بالخلق والتقوى؟ هل يأتي ذلك اليوم السعيد الذي يجعل أعيادنا صورة من مدنية دين الله التي تبدأ بالرحمة والحنان والتعاطف، وتنتهي بالعمل والجد والصبر والتعاون؟ يومئذ تكون السيادة العليا للمدنية المستقبلة، مدنية الحرية التي لا تشتهي أن تَفْجُر، والعلم الذي لا ينبغي أن يكفر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١) يزدلف: يقترب، وأصله المشْي البطيء إلى غاية الشيء.
 
جمهرة مقالات الأستاذ محمود شاكر، ص١٤٩-١٥٠، ط٢ مكتبة الخانجي بالقاهرة.11948294_827156287391208_1441521688_n

في كم يتلى القرآن؟ العلامة محمود الطناحي رحمه الله.

في كم يُتلى القرآن؟

القرآن كلام الله، تنزيلٌ من حكيمٍ حميدٍ، نزل به الروح الأمينُ جبريل عليه السلام على قَلْب محمدٍ صلَّى الله عليه وسلم ليكون من المنذِرِين، وقد أُمر عليه السلام بتلاوته على أُمَّته، وأُمِرَت أمَّته بتلاوته وتدبُّر آياته والعمل بها، وقد أثنى ربُّنا عزَّ وجلَّ على عِباده التالينَ له؛ فقال تقدَّستْ أسماؤه: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ﴾ [فاطر: ٢٩-٣٠].

ويأتي رمضانُ كلَّ عام مُذَكِّرًا بهذا النور المبين؛ فقد نزل القرآن الكريم في ليلةٍ مباركةٍ منه، والمسلم وإن كان مأمورًا بقراءة القرآن في كلِّ وقتٍ وحينٍ فإنه يجد لَذَّةً وأُنْسًا حين يقرؤه في رمضانَ لا يجدهما في وقتٍ آخَر. ونعمْ: إن القرآن يطيب به الفمُ، ويَزكو به العمل في كل آنٍ، ولكنَّ الله يجعل لبعض الأيام ولبعض المواضع خُصوصيَّةً ليست لغيرهما، وقد روي عن محمد بن مَسْلَمة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن لربِّكم في أيام دهركم نَفَحَاتٍ، فتعرضوا لها” “مَجْمَع الزوائد للهيثمي”: (١٠/ ٢٣١).

ولقد حَفِظْتُ القرآن صغيرًا، واشتغلتُ بعلومه كبيرًا، وقرأتُه على فُحول شُيوخه، واستمعتُه من كبار مُقْرئيه، ولا زلت مَغْمورًا بنوره وضيائه، فهو معي في مَغْدَايَ ومَراحي، وفي حِلِّي وتِرْحالي والحمد لله، ولكن حلاوته تَعْظُم في فمي، ونَغَمَهُ يَعْذُبُ في سَمْعي حين أقرؤه في رمضانَ وفي الحرمينِ الشريفينِ، وكمْ كان قلبي يَخشع وكِياني يَهتزُّ، ودُموعي تجري حين أقرأ وأنا في الروضة الشريفة تلك الآيات التي تُخَاطب الرسول صلى الله عليه وسلم وتناديه، فأقرأُ وأتمثَّلُ وأستحضِرُ وأنا بقرب النور وفي كَرَم الجِوار، فأيُّ جلالٍ وأيُّ جمال.

وما دخلْتُ المسجد النبويَّ مرَّةً إلا وقرأتُ سورة النساء؛ لأَستحضِر تلك الصورة الغالية الخاشعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وابن مسعود يَقرأ عليه سورة النساء، وذلك ما رواه البخاريّ عنه، قال: قال ليَ النبي صلى الله عليه وسلم: “اقرأ عليَّ”. قلت: يا رسول الله، أَأَقْرَأُ عليكَ وعليكَ أُنزِل؟! قال: “نَعَمْ”. فقرأتُ سُورة النساء، حتى أتيتُ إلى هذه الآية: ﴿ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أمَّة بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا ﴾ [النساء:٤١]. قال: “حَسْبُكَ الآن”. فالتفتُّ إليه، فإذا عيناهُ تَذْرِفَانِ”؛ “صحيح البخاري، باب قول المقرئ للقارئ: حسبُكَ. من كتاب فضائل القرآن”: (٦/ ٢٤١).

وهكذا تكون معرفة التفسير وأسباب النزول مُعِينَةً على فَهْمِ القرآن وتدبُّره، فإذا انضمَّ إلى ذلك معرفةُ غريبه ووجوه قراءاته ونحوه وإعرابه ومعانيه، كان ذلك أعْوَنَ على معرفة أسراره والوقوف على دقائقه، ثُمَّ التلذُّذ بتلاوته، واستصغار لذائذ الدنيا كلِّها بجوار آيةٍ واحدةٍ من آياته، يتلوها المؤمن مستجْمعًا لها فِكْرَهُ، مُخَلِّيًا لها قلبَهُ، ولذلك يقول أحمد بن أبي الحَواريِّ الصوفيُّ، المتوفى سنة ٢٣٠ هـ: “إني لأقرأُ القرآن، فأنظر في آية، فيَحارُ عقلي فيها، وأَعْجَبُ من حفَّاظ القرآن كيف يهنيهم النوم، ويَسَعُهم أن يَشتغلوا بشيءٍ من الدنيا وهم يتلون كلام الرحمن؟! أمَا لو فهموا ما يتلونَ وعرفوا حقَّه، وتلذَّذوا به، واستحْلَوُا المناجاةَ به؛ لذهب عنهم النوم فرحًا بما رُزقوا ووُفِّقوا”؛ “طبقات الصوفية للسُّلمي”: (ص ١٠٢).

والقرآنُ مُؤْنِسٌ لتاليه، مُزيلٌ لوَحْشته، يقول الراغب الأصفهانيُّ في مقدِّمة كتابه “حلّ متشابهات القرآن”: “فاتَّفَقَتْ خَلْوَةٌ سطوتُ على وَحْشَتها بالقرآن، ولولا أنه لم يكن لي بها يدان… وكانت هذه الخَلْوَة خَلْوَةَ عينٍ لا خَلْوَةَ قلبٍ، واضطرارًا لا عن اختيارٍ؛ بل لقهرٍ وغَلَبٍ”، والظاهر أن المراد بهذه الخَلْوَة السِّجن؛ “مقدمة تحقيق كتاب المفردات في ألفاظ القرآن”: (ص ٢٩).

والمسلم حين يتلو القرآن ليس لسانًا يضطرب في جَوْبَة الحَنَك فقط، ولكنه لسانٌ يتلو، وقلبٌ يخشع، ونفْسٌ تموج، وعزمٌ ينهض، ولعمر بن الخطاب رضي الله عنه كلامٌ نفيسٌ في أن المسلم مطالَبٌ بأن يَجمَع القرآن ويحفظه ويحيط به، ويجعله إمامه في جوارحه كلِّها، وفي عمله كلِّه، وذلك ما أخرَجَهُ ابن جَرِير الطَّبريُّ عن الحسن: “أن ناسًا لقُوا عبدالله بنَ عمرو بمصر، فقالوا: نرى أشياءَ من كتاب الله، أمر أن يُعمل بها، لا يُعملُ بها، فأردنا أن نلقى أمير المؤمنين في ذلك، فقدِمَ وقَدِموا معه، فلَقِيَهُ عمر رضي الله عنه فقال: متى قدِمْتَ؟ قال: منذ كذا وكذا، قال: أبإِذْنٍ قَدِمْتَ؟ قال: فلا أدري كيف رَدَّ عليه، فقال: يا أمير المؤمنين، إنَّ ناسًا لقُوني بمصر فقالوا: إنا نرى أشياءَ من كتاب الله – تبارك وتعالى – أَمَرَ أن يُعمل بها لا يُعملُ بها؛ فأحبُّوا أن يلقَوْكَ في ذلك، فقال: اجْمَعْهُم لي، قال: فجمعتهم له.. فأخذ أدناهم رجلاً، فقال: أَنْشُدُكَ بالله وبحقِّ الإسلام عليكَ، أَقَرَأْتَ القرآن كلَّه؟ قال: نعم. قال: فهَلْ أَحْصَيْتَه في نفسكَ؟ قال: اللهم لا، قال: ولو قال “نعم” لخصمه. قال: فهل أحصيته في بَصَرِكَ؟ هل أحصيته في لفظكَ؟ هل أحصيته في أَثَرِكَ؟ قال: ثُمَّ تَتَبَّعهم حتى أتى على آخِرهم، فقال: ثَكِلَتْ عمرَ أمُّه، أَتُكَلِّفونه أن يقيم الناس على كتاب الله؟! قد عَلِمَ ربُّنا أن ستكون لنا سيئاتٌ. قال: وتلا: ﴿ إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيمًا ﴾ [النساء: ٣١]. هل علم أهل المدينة – أو قال: هل علم أحد بما قَدِمْتُمْ؟ – قالوا: لا. قال: لو علموا لَوَعَظْتُ بكم”؛ “تفسير الطبري”: (٨/ ٢٥٤، ٢٥٥).

قال شيخنا أبو فِهْر : “وقولُهُ: “لَوَعَظْتُ بكم”؛ أي: لأنزلتُ بكم من العقوبة ما يكون عِظَةً لغَيْرِكم من الناس، وذلك أنهم جاؤوا في شَكاة عامِلِهم على مصر، وتشدَّدوا ولم يُيَسِّروا، وأرادوا أن يسير في الناس بما لا يطيقون هم في أنفسهم من الإحاطة بكلِّ أعمال الإسلام وما أمرهم الله به، وذلك من الفتن الكبيرة، ولم يريدوا ظاهر الإسلام وأحكامه، وإنما أرادوا بعضَ ما أدَّبَ الله به خَلْقَه، وعُمَرُ أَجَلُّ من أن يتهاون في أحكام الإسلام، إنما قلتُ هذا وشرحتُه مخافةَ أن يحتجَّ به مُحْتَجٌّ من ذوي السلطان والجبروت في إباحة ترك أحكام الله غير معمولٍ بها، كما هو أمر الطغاة والجبابرة من الحاكمين في زماننا هذا”.

ولهذه الغايات كلِّها أُمِرْنا بترتيل القرآن في قوله عز وجل مخاطبًا وآمِرًا نبيَّه صلى الله عليه وسلم والأمر لأمَّتِهِ معه: ﴿ وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلا ﴾ [المزمل: ٤]، قال القُرطبي: “أي: لا تَعْجَل بقراءة القرآن؛ بلِ اقْرَأْه في مَهَلٍ وبيانٍ، مع تدبُّر المعاني، والترتيل: التنضيد والتنسيق وحسن النظام، ومنه ثَغْرُ رَتِلٌ ورَتَلٌ، بكسْر التاء وفَتْحها، أي: حُسْن التنضيد”؛ “تفسير القرطبي”: (١٩/ ٣٧). وحُكيَ عن أبي بكر بن طاهر قال: “تدبَّرْ في لطائف خطابه، وطالبْ نفسَكَ بالقيام بأحكامه، وقلبَكَ بفهم معانيه، وسِرَّكَ بالإقبال عليه”.

وروي أنَّ علقمةَ بنَ قيس قرأ على عبدالله بن مسعود، فكأنه عَجِل؛ فقال ابن مسعود: “فداك أبي وأمي، رَتِّلْ؛ فإنه زَيْنٌ للقرآن”؛ “المرشد الوجيز إلى عُلومٍ تَتَعَلَّق بالكتاب العزيز، لأبي شامة المقدسي”: (ص ١٩٨).

لكنَّ قومًا من أهل الصِّدْق والإخلاص – في زماننا ومن قبل زماننا – حَسُنَتْ نيَّاتُهم، وسَلِمَتْ صُدورُهم، يرغبون في إحراز الأجر ومضاعفة الثواب، يَشتدُّون في هذا الشهر المبارك، ويبالغون في ختم القرآن أكثر من مرَّة، ويتباهَوْنَ في ذلك؛ فيقول أحدهم: خَتَمْتُه عشرين مرَّة، ويقول آخَرُ: بل خَتَمْتُه ثلاثين، ثم يزيد بعضهم وينقص بعضهم، وما يدرون أنَّهم بذلك يبتعدون عن السنَّة المأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن صحابته الأكرمين.

فقد روى البخاري ومسلم، عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ألم أُخْبَرْ أنكَ تصوم الدهر، وتقرأ القرآن كلَّ ليلة؟”. قلتُ: بلى يا نبي اللَّهِ، ولم أُرِدْ بذلك إلا الخير، قال: “فصُمْ صوم داود – وكان أَعْبَدَ الناس – [كان يصوم يومًا ويُفطر يومًا]، واقرأ القرآن في كلِّ شهر”، قال قلتُ: يا نبي الله، إني أُطيقُ أفضل من ذلك. قال: “فاقرأْهُ في كلِّ عشرين”. قال قلتُ: يا نبي الله، إني أُطيقُ أفضل من ذلك، قال: “فاقرأه في كلِّ عشرٍ”. قال قلتُ: يا نبي الله، إني أُطيقُ أفضل من ذلك، قال: “فاقرأْهُ في كلِّ سبعٍ، لا تَزِدْ على ذلك”، قال: فشدَّدْتُ، فشدَّد عليَّ، وقال لي: “إنك لا تدري، لعلك يطول بك عُمْرٌ”، قال: فصرتُ إلى الذي قال لي النبيُّ صلى الله عليه وسلم فلما كبرت ودِدْتُ أني كنت قبلتُ رخصةَ نبي الله صلى الله عليه وسلم”. “جامع الأصول في أحاديث الرسول، لمجد الدين بن الأثير” (٢/ ٤٧١، ٤٧٢)، وجمع للحديث طُرُقًا أخرى.

ورُوِيَ عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: “لأَنْ أقرأَ سورةً أُرَتِّلُها أحبُّ إليَّ من أن أَقْرَأَ القرآن كلَّه”، وروي عنه أيضًا أنه قال: “لأَنْ أقرأَ القرآن في ثلاثٍ أَحَبُّ إليَّ من أن أقرأه في ليلةٍ كما يقرأ هَذْرَمَةً”، والهَذْرَمَةُ: السرعة في الكلام والمشي، ويُقال: هَذْرَمَ في كلامه هَذْرَمَةً: أي خَلَّطَ، ويقال للتخليط: الهَذْرَمَة.

وثبت عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: ” أنَّ رجلاً قال له: إني أقرأ المفصَّل في ركعةٍ واحدةٍ؛ فقال عبدالله بن مسعود: أهذًّا كهَذِّ الشِّعْر؟ إن أقوامًا يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيَهُم، ولكن إذا وقع في القلب فَرَسَخَ فيه، نفع”؛ أراد: أَتَهُذُّ القرآن هذًّا، فتسرع فيه كما تسرع في قراءة الشِّعر؟! والهَذُّ: سرعة القطع، والمفصَّل من سور القرآن: من سورة الحجرات إلى سورة الناس، وقيل غير ذلك، وسُمِّي مفصَّلاً لكثرة الفصول بين سُوَرِهِ، أو لِقِلَّةِ المنسوخ فيه” بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز، للفيروزآبادي”: (٤/ ١٩٤).

وسُئل مجاهدٌ عن رجُل قرأ البقرة وآل عمران، ورجُلٍ قرأ البقرة، قيامهما واحدٌ، وركوعما واحدٌ، وسجودهما واحدٌ، وجُلُوسهما واحدٌ، أيُّهم أفضل؟ فقال: الذي قرأ البقرة، ثم قرأ: ﴿ وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً ﴾ [الإسراء: ١٠٦]؛ وانظر بيان ذلك كله في: “المرشد الوجيز” (ص ١٩٧)، و”التبيان في آداب حملة القرآن للنووي”: (ص ٧١).

وإذا كان كثيرٌ من الناس يشتدُّون ويجتهدون في ختم القرآن في رمضانَ أكثر من مرَّة، فإنَّ كثيرًا منهم أيضًا كان على السُّنة، وعلى المنهج الراشد المقتصِد؛ فَقَدْ رُوِي أنَّ أبا رجاء العُطارِدِيَّ – وكان إمامًا كبيرًا من المخضرَمين – كان يختم بأصحابه في قيام رمضان القرآن كلَّ عشرة أيام؛ “حِلْية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني”: (٢/ ٣٠٦)، و”صِفة الصَّفوة لابن الجوزي”: (٣/ ٢٢١).

وقال القُرطبي في كتاب “التَّذْكار في أفضل الأذكار”: (ص ٦٧): “وذهب كثيرٌ من العلماء إلى مَنْعِ الزِّيادة على سبع، أخذًا بظاهر المنع في قوله: “فاقرأْهُ في سبعٍ ولا تَزِدْ – يعني: في حديث عبدالله بن عمرو السابق – واقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يُرْوَ عنه أنه خَتَمَ القُرْآنَ كُلَّه في ليلة، ولا في أقلَّ من السَّبع، وهو أعلم بالمصالح والأجر، وفضل الله يؤتيه مَنْ يشاء، فقد يعطي على القليل ما لا يعطي على الكثير”.

وروي أنَّ عبدالله بن مسعود كان يقرأ القرآن في غير رمضان من الجمعة إلى الجمعة، ويقرؤه في رمضان في ثلاث، وكذلك كان تَميم والأعمشُ يَختِمان في كلِّ سبعٍ، وكان أُبَيٌّ يَخْتِمُه في كلِّ ثمانٍ، وكان الأسودُ يختِمُه في ستٍّ، وكان علقمةُ يختمه في خمسٍ؛ “جمال القرَّاء وكمال الإقراء لعلم الدين السخاوي”: (١/ ١٠٧).

وقد عقد أبو عمرو الدَّانيُّ بابًا في: “كم يُستحبُّ خَتْم القرآن، وما رُوي عن الصحابة والتابعين في ذلك”، في كتابه “البيان في عدِّ آي القرآن”: (ص ٣٢١).

بل إن بعض الصحابة والتابعين كان يقف في قراءته عند سورةٍ بعينِها، يظلُّ يردِّدها، أو آيةٍ بخصوصها، فلا يَزال يكرِّرها؛ طَلَبًا للتدبُّر، وخشوعًا لجلال المعنى، وكان إمامهم في ذلك وقدوتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فقد روي عن أبي ذَرٍّ رضي الله عنه: “أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام ليلةً من اليالي يقرأ آيةً واحدةً الليلَ كلَّه حتى أصبح، بها يقوم، وبها يركع، وبها يسجد: ﴿ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [المائدة: ١١٨]”، وعن تميمٍ الدَّاري أنه أتى المقام – في الكعبة الشريفة – ذات ليلة، فقام يُصَلي، فافتتح السورة التي تُذكر فيها الجاثية، لمَّا أتى على هذه الآية: ﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾ [الجاثية: ٢١]، لم يزل يرددها حتى أصبح، وعن ابن مسعود أنه لم يزل يردِّد: ﴿ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ﴾ [طه: ١١٤] حتى أصبح، وعن عامر بن عبدالقيس أنه قرأ من سورة المؤمن – غافر – فلما انتهى إلى قوله تعالى: ﴿ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ ﴾ [غافر: ١٨]، لم يزل يردِّدها حتى أصبح، وروي عن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما أنها افتتحت سورة الطور، فلما انتهت إلى قوله تعالى: ﴿ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ ﴾ [الطور: ٢٧] ذهبت إلى السوق في حاجة، ثم رجعت وهي تكرِّرها، وهي في الصلاة أيضًا.

وعن سعيد بن جبير أنه ردَّد هذه الآية في الصلاة بِضعًا وعشرين مرَّة: ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: ٢٨١]، وعنه أيضًا أنه استفتح بعد العشاء الآخرة بسورة: ﴿ إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ ﴾ [الانفطار: ١]، فلم يزل فيها حتى نادى منادي السَّحَر؛ “المرشد الوجيز”: (ص ١٩٥ – ١٩٧).

فمدار الأمر في تلاوة القرآن على التدبُّر واستحضار المعاني، وتأمُّل الإشارات، وتبيُّن الدَّلالات، فمَنْ أَنِس في نفسه قدرةً وجلادةً، مع تحقيق هذه الغايات، وتعهُّد الواجبات الأخرى من الفرائض والنوافل، ومِنْ سَعْىٍ في أُمور المعاش وإعمار الحياة؛ فليقرأ ما شاء الله له أن يقرأ، على ألا يزيد على السُّنة المأثورة.

وللحافظ الذَّهَبِيِّ هنا كلامٌ جيِّدٌ، ينبغي ذِكْرُهُ وتأمُّله، قال رضي الله عنه تعقيبًا على حديث عبدالله بن عمرو بن العاص السَّابق: ” وصحَّ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نَازَلَهُ إلى ثلاثِ ليالٍ، ونَهاه أن يقرأه في أقلَّ من ثلاثٍ، وهذا كان في الذي نَزَلَ من القرآن، ثم بعد هذا القول نزل ما بقي من القرآن، فأقلُّ مراتِبِ النهي أن تُكرَهَ تِلاوة القرآن كلِّه في أقلَّ من ثلاثٍ، فما فَقِهَ ولا تدبَّر مَنْ تلا في أقلَّ من ذلك، ولو تلا ورتَّل في أسبوع ولازم ذلك؛ لكان عملاً فاضلاً، فالدِّين يسرٌ، فوالله إن ترتيل سُبْع القرآن في تهجُّدِ قيام الليل، مع المحافظة على النوافل الرَّاتبة، والضُّحى، وتحية المسجد، مع الأذكار المأثورة الثابتة، والقول عند النوم واليقظة، ودُبُر المكتوبة والسَّحر، مع النَّظر في العلم النافع، والاشتغال به مخلصًا لله، مع الأمر بالمعروف، وإرشاد الجاهل وتفهيمه، وزجر الفاسق ونحو ذلك، مع أداء الفرائض في جماعةٍ بخشوع وطمأنينة وانكسار وإيمان، مع أداء الواجب، واجتناب الكبائر، وكثرة الدعاء والاستغفار والصدقة، وصلة الرحم والتواضع، والإخلاص في جميع ذلك – لشغلٌ عظيمٌ جسيمٌ، ولمقامُ أصحاب اليمين وأولياء الله المتَّقين؛ فإنَّ سائر ذلك مطلوبٌ، فمتى تشاغل العابد بخَتْمه في كل يومٍ؛ فقد خالف الحنيفيَّة السَّمْحة، ولم ينهض بأكثر ما ذكرناه ولا تدبَّر ما يتلوه.

هذا السيد العابد الصاحب – يعني عبدالله بن عمرو بن العاص – كان يقول لما شاخ: ((ليتني قبِلْتُ رخصة رسول الله – صلى الله عليه وسلم)). وكذلك قال له عليه السلام في الصوم، وما زال يناقصه حتى قال له: “صُمْ يومًا وأفطرْ يومًا، صُمْ صومَ أخي داود عليه السلام”. وثبت أنه قال: “أفضل الصيام صيام داود”. ونهى عليه السلام عن صيام الدَّهر. وأمر عليه السلام بنوم قسطٍ من الليل، وقال: “لكنِّي أقوم وأنام، وأصوم وأُفْطِرُ، وأتزوَّج النساء، وآكل اللحم، فمَنْ رغِبَ عن سُنَّتي فليس منِّي”.

وكلُّ مَنْ يَزُمُّ نفسَه – أي يَمنع ويَكْبَح – في تعبُّده وأوراده بالسنة النبوية – يندم ويترهَّب ويسوء مِزاجه، ويَفوته خَيْرٌ كثيرٌ من متابعة سُنَّة نبيِّه الرؤوف الرحيم بالمؤمنين، الحريص على نفعهم، وما زال صلى الله عليه وسلم معلِّما للأُمَّة أفضل الأعمال، وآمرًا بهجر التَّبتُّل والرَّهبانية التي لم يُبعَث بها، فنهى عن سَرْد الصوم – أي: تواليه وتتابعه – ونهى عن الوصال في الصوم، وعن قيام أكثر الليل إلا في العُشْر الأخير – يعني من رمضان – ونهى عن العُزْبَة – عدم الزواج – للمستطيع، ونهى عن ترك اللحم، إلى غير ذلك من الأوامر والنواهي.

فالعابد بلا معرفةٍ لكثير من ذلك معذورٌ مأجورٌ، والعابد العالم بالآثار المحمدية المتجاوز لها مفضول مغرور، وأَحَبُّ الأعمال إلى الله تعالى أَدْوَمُها وإن قلَّ، ألهمنا الله وإيَّاكم حسن المتابعة، وجنَّبنا الهوى والمخالفة” “سير أعلام النبلاء: ٣/ ٨٤ – ٨٦”.

وذكر الذهبي أيضًا في ترجمة “أبي بكر شُعْبَة بن عيَّاش” أنه مَكَثَ نحوًا من أربعين سنة يختم القرآن في كلِّ يوم وليلة مرة، وعلَّق على ذلك فقال: “وهذه عبادةٌ يُخْضَعُ لها، ولكن متابعةُ السُّنة أوْلى، فقد صحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم نهى عبدالله بن عمرو أن يقرأ القرآن في أقلَّ من ثلاث، وقال عليه السلام: “لم يَفْقَهْ مَنْ قرأ القرآن في أقل من ثلاث” “سير أعلام النبلاء: ٨/ ٤٤٢”.

وكذلك ذُكِرَ في ترجمة “وَكيع بن الجراح” أنه كان يصوم الدَّهر، ويختم القرآن كلَّ ليلةٍ، وعقَّب على ذلك فقال: “هذه عبادةٌ يُخضع لها، ولكنها من مثل إمامٍ من الأئمة الأثرية مفضولةٌ؛ فقد صحَّ نهيُه عليه السلام عن صوم الدهر، وصحَّ أنه نهى أن يُقرأ القرآن في أقل من ثلاثٍ، والدين يسرٌ، ومتابعة السُّنة أوْلى” “سير أعلام النبلاء: ٩/ ١٤٣”.

ومن قبل الذهبي، ذكر خطيب السُّنة الإمام الجليل أبو محمد عبدالله بن مسلم بن قُتَيْبَة، في كتابه “تأويل مُشْكِل القرآن: ص ٢٣٣” قال: “ولم يفرض الله على عباده أن يحفظوا القرآن كلَّه، ولا أن يَختموه في التعلُّم، وإنما أنزله ليعملوا بمُحْكَمه ويؤمنوا بمتشابِهه، ويأتمروا بأمره، وينتهوا بزَجْره، ويحفظوا للصلاة مِقدار الطاقة، ويقرؤوا فيها الميسور، قال الحسن البصري: “نزل القرآن ليُعمل به؛ فاتَّخذ الناس تلاوته عملاً”.

وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم- وهم مصابيح الأرض، وقادَة الأنام، ومنتهى العلم – إنما يقرأ الرجل منهم السورتين والثلاث والأربع، والبعض والشَّطر من القرآن، إلاَّ نَفَرًا منهم وفَّقهم الله لِجَمْعِهِ، وسهَّل عليهم حفظه. قال أنس بن مالك: “كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جدَّ فينا، أي جلَّ في عيوننا، وعَظُمَ في صدورنا”. وفي “تفسير القرطبي” (١/ ٤٠)، عن ابن عمر قال: “كان الفاضل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر هذه الأُمَّة لا يحفظ من القرآن إلا السورة أو نحوها، ورُزقوا العمل بالقرآن، وإنَّ آخِر هذه الأمَّة يقرؤون القرآن، منهم الصبي والأعمى، ولا يُرزقون العمل به”.

اللهُمَّ حبِّب إلينا القرآن، وأَذِقْنا حلاوَته، وارْزقنا تلاوته وفِقْهَهُ والعملَ به آناء الليل وأطراف النهار، واجعله أنيسًا لنا في هذا الزمان الذي ذهب فيه مَنْ يُؤْنَس به ويُستراح إليه، واجعله اللهم ربيع قلوبنا، ونور صُدُورِنا، وجِلاء – بكسر الجيم – حزننا، وذَهاب – بفتح الذال – همِّنا، واجعلنا ممَّنْ يَرعاه حقَّ رعايته، ويقوم بقَصْده، ويوفِّي بشَرْطه، ولا يلتمس الهُدَى في غيره، ويرحم الله عبدًا قال: آمينا.

مقالات العلامة الدكتور محمود محمد الطناحي، ج١ ص٣٣٦، ط٣ دار البشائر.

خط 7